الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ المهندس صلاح الدين طه منزهي
مقالات نصية

أحاديث الفتن والفقه المطلوب

أحاديث الفتن والفقه المطلوب

مجلة البيان (32/ 26)

دراسات

د . مأمون فريز جرار

إن مما ينبغى أن يُلفت إليه النظر ويوجه إليه الاهتمام ذلك الباب الذي نجده

في كثير من كتب الحديث النبوي تحت عنوان ( كتاب الفتن ) أو ( الملاحم وأشراط

الساعة ) ، فإن فيه أحاديث بين فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يكون من الفتن التى تقع بين المسلمين ، أو الأحداث التى ستكون بينهم وبين غيرهم من الأمم والملل ، ونجد في بعضها تصريحاً بيّناً وفي بعضها الآخر رموزاً وإشارات موحية .

إن علينا أن نسأل أنفسنا : لِمَ حدَّث النبى -صلى الله عليه وسلم- بتلك

الأحاديث ؟ ولم كان منه ذلك الاهتمام الشديد بالفتن وأخبارها حتى كان الصحابة

يُصابون بشيء من الذعر لكثرة حديثه عنها ؟ !

يستيقظ – عليه الصلاة والسلام – مرة من نومه فتسمعه زوجه السيدة زينب

بنت جحش – رضي الله عنها – يقول : « لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد

اقترب ؛ فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه (وعقد سفيان – أحد رواة

الحديث – بيده عشرة) وتقول له السيدة زينب : يا رسول الله : أنهلك وفينا

الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث » [1] .

ويشرف على أُطُم من آطام المدينة فيقول لأصحابه : « هل ترون ما أرى ؟

إنى لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر » [2] . ويحدثهم النبى -صلى

الله عليه وسلم- عن فتن بعيدة عن عصرهم ويهتم بها أي اهتمام ، ويستعيذ منها

ويعلّم المسلمين أن يفعلوا ذلك ، ومنها فتنة الدجال [3] ، وإن من الثابت في صحاح

الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قص على أصحابه ما سيكون من أحداث

الدنيا وفتنتها حتى يوم القيامة ، عمّ بذلك الصحابة كلهم ، وخص بعضهم بما لم يقله

على الملأ . ولنستمع إلى أبي زيد عمرو بن أخطب يحدثنا بهذا الحديث العجيب ،

قال : ( صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر وصعد المنبر ، فخطبنا

حتى حضرت الظهر ، فنزل فصلى ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس ، فأخبر بما كان وما

هو كائن ، فأعلمنا أحفظنا ) [4] .

ولعل حذيفة – رضي الله عنه – يشير إلى هذه الخطبة في قوله : ( لقد خطبنا

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ، إن كنت لأرى الشيء قد نسيت ، فأعرف ما

يعرف ، الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه ) [5] .

ولسائل أن يسأل أين هذه الخطبة ؟ وهل رُويت بنصها في كتب السنة ؟

والذي أراه أنها رويت مقطعة في أحاديث الفتن ، وفي الحديثين السابقين ما يشير

إلى نسيان كثير من الصحابة لها ، ( فأعلمنا أحفظنا ) و ( علمه من علمه وجهله من

جهله ) ثم حال حذيفة مع بعض الفتن التي يذكر حديث رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- عنها بعد وقوعها !

ويبدو أن حذيفة أعلم الصحابة بالفتن ، فهو يقول : ( أخبرني رسول -صلى

الله عليه وسلم- بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، فما منه شيء إلا قد سألته ، إلا

أنى لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة ) [6] ..

ويبدو أن حذيفة كان يتحرج من ذكر كل ما يعلم من أمر الفتن ، خشية أن

يكون بعض ما يعلمه مما أسرَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره من

الصحابة ، وهذا ما يبدو في قوله التالى : ( والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هى

كائنة فيما بيني وبين الساعة ، وما بي إلا أن يكون رسول -صلى الله عليه وسلم-

أسر إليَّ ذلك شيئاً لم يحدثه غيري ، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال

وهو يحدث مجلساً أنا فيه عن الفتن : فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو

يعد الفتن : « منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئاً ، ومنهن فتن كرياح الصيف ، منها

صغار ومنها كبار » ، قال حذيفة : فذهب أولئك الرهط كلهم غيري ) [7] .

ومن الأمثلة على معرفة حذيفة بتفاصيل الأحداث ما يرويه محمد بن سيرين

عن جندب قال : ( جئت يوم الجرعة فإذا رجل جالس ، فقلت : ليهرقن اليوم ههنا

دماء ، فقال ذاك الرجل : كلا والله ، قلت : بلى والله ، قال : كلا والله . قلت : بلى

والله ، قال : كلا والله ، إنه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنيه .

قلت : بئس الجليس لي أنت منذ اليوم ، تسمعني أخالفك وقد سمعته من رسول الله

– صلى الله عليه وسلم- فلا تنهاني ؟ ثم قلت : ما هذا الغضب ؟ فأقبلت عليه ،

وأسأله ، فإذا الرجل حذيفة ) [8] .

ومن ذلك ما يرويه حذيفة عن حوار دار بينه وبين عمر عن الفتن ، وذلك في

قوله : ( كنا جلوساً عند عمر – رضي الله عنه – فقال : أيكم يحفظ قول رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- في الفتنة ؟ قلت : أنا كما قاله ، قال : إنك عليه (أو عليها)

لجريء . قلت : فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم

والصدقة والأمر والنهى . قال : ليس هذا أريد ! ولكن الفتنة التى تموج كما يموج

البحر . قال : ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين ، إن بينك وبينها باباً مغلقاً .

قال : أيُكسر أم يُفتح ؟ قال : يكسر ! قال : إذاً لا يُغلق أبداً ، قلنا [9] : أكان عمر

يعلم الباب ؟ قال : نعم ، كما أن دون الغد الليلة . إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط .

فَهِبْنا أن نسأل حذيفة فأمرنا مسروقا فسأله ، فقال : الباب عمر ) [10] .

وسياق الحديث نص في أن عمر كان يعرف من أمر تلك الفتنة التي سأل

عنها ما كان يعلمه حذيفة .

ويحدث حذيفة أصحابه عن سر تمكنه من أخبار الفتن فيقول : ( إن الناس

كانوا يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر . فأنكر ذلك القوم – أي الذين كان حذيفة يحدثهم – فقال لهم : إني سأخبركم بما

أنكرتم من ذلك : جاء الإسلام حين جاء فجاء أمر ليس كالجاهلية ، وكنت قد

أُعطيت في القرآن فهماً ، فكان رجال يجيئون فيسألون عن الخير ، فكنت أسأل عن

الشر ! فقلت : يا رسول الله ، أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر ؟ فقال :

نعم . قلت : فما العصمة يا رسول الله ؟ قال : السيف . قال : قلت : وهل بعد هذا

السيف بقية ؟ قال : نعم ، تكون إمارة على أقذاء ، وهدنة على دَخَن ، قال : قلت :

ثم ماذا ؟ قال : ثم تنشأ دعاة الضلالة ، فإذا كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد

ظهرك وأخذ مالك فالزمْه ، وإلا فمت وأنت عاضّ على جِذل شجرة ، قال : قلت :

ثم ماذا ؟ قال : يخرج الدجال بعد ذلك ، معه نهر ونار ، من وقع في ناره وجب

أجره ، وحُط وزره ، ومن وقع في نهره وجب وزره ، وحط أجره ، قال : قلت :

ثم ماذا ؟ قال : ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة ) [11] .

وقد جاء بعد نص الحديث أن قتادة – وهو أحد رواته – فسر الشر الذى تكون

العصمة منه بالسيف بالردة التي حدثت في زمن أبى بكر (رضي الله عنه) .

وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حدث أصحابه حديثاً عاماً عن الفتن

التى ستحدث في أزمان تالية – قد يعاصرونها وأكثرها يأتي بعد أن يفارقوا الدنيا –

فقد عهد إلى بعض أصحابه عهوداً خاصة بشأن فتن يمرون بها وتصيبهم ! ، يحدثنا

كعب بن عجرة – رضي الله عنه – فيقول : ذكر رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- فتنة فقربها ! فمر رجل مقنع على رأسه ، فقال رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- ( هذا يومئذ على الهدى ، فوثبت فأخذت بضبعي عثمان ، ثم استقبلت رسول …

الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت : هذا ؟ قال : هذا ) [12] .

ولعل في هذا الحديث والأحاديث التالية ما يفسر لنا موقف عثمان في الفتنة

التي أودت به ! وصبره عليها ونهيه المسلمين عن القتال دونه فيها ، وقوله لأبي

هريرة الذي كان معه في بيته يوم حصر فيه : ( يا أبا هريرة ، إنما تراد نفسي ،

فعلامَ نقتل الناس ؟ أحتسب بنفسي عن الناس ) [13] . وقد روت عائشة – رضي

الله عنها – حديثاً كانت قد نسيته في غمرة الفتنة ، وذكرته بعد مقتل عثمان وهو ذو

دلالة على ما نحن فيه : عن عائشة قالت : ( قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : …

« يا عثمان ، إن ولاك الله هذا الأمر يوماً فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي

قمَّصك الله فلا تخلعْه ، فلا تخلعه ، فلا تخلعه » ، قال النعمان – راوي الحديث –

فقلت لعائشة : ما منعك أن تُعْلمي الناس بهذا ؟ (يعنى أيام الفتنة وحصار الناس

لعثمان) ، قالت : أُنسيته ) [14] .

وعنها – رضي الله عنها – قالت : ( قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

في مرضه : وددت أن عندي بعض أصحابي . قلنا : ألا ندعو لك أبا بكر ؟ فسكت . قلنا : ألا ندعو لك عمر ؟ فسكت ، قلنا : ألا ندعو لك عثمان . قال : نعم . فجاء ، فخلا به ، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يكلمه ووجْه عثمان يتغير . قال

قيس (أحد رواة الحديث) : فحدثني أبو سهلة – مولى عثمان -أن عثمان بن عفان

قال يوم الدار : إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إليَّ عهداً فأنا صائر إليه . وقال علي في حديثه : وأنا صابر عليه . قال قيس : فكانوا يرونه ذلك

اليوم ) [15] .

وقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري – الذي قص فيه خبر النبي -صلى

الله عليه وسلم- مع أبي بكر وعمر وعثمان في بئر أريس ، وقد جاء في شأن

عثمان قوله لأبي موسى الأشعري : « ائذن له ، وبشره بالجنة مع بلوى

تصيبه » [16] .

ومن العهود النبوية الخاصة إلى بعض أصحابه ما يدل عليه هذا الحديث : (عن عديسة بنت أهبان قالت : لما جاء علي بن أبي طالب ههنا- البصرة- دخل

على أبي ، فقال : يا أبا مسلم ، ألا تعينني على هؤلاء القوم ؟ قال : بلى ! قال :

فدعا جارية فقال : يا جارية أخرجي سيفي ، قال : فأخرجته ، فسلَّ منه قدر شبر ،

فإذا هو خشب ! ! فقال : إن خليلي وابن عمك -صلى الله عليه وسلم- عهد إليَّ إذا

كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفاً من خشب ، فإن شئت خرجت معك ! قال : لا

حاجة لي فيك ولا في سيفك ) [17] .

وهذا أبو ذر يورد لنا حواراً دار بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-

تضمن وصايا نبوية له في الفتن وموقفه منها :

( عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال : قال لي رسول الله – صلى الله عليه

وسلم- : كيف أنت يا أبا ذر وموتاً يصيب الناس حتى يقوَّم البيت بالوصيف (يعني

القبر) ؟ ! . قلت : ما خار لي الله ورسوله (أو قال : الله ورسوله أعلم) قال :

تصبر . قال : كيف أنت وجوعاً يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن

ترجع إلى فراشك ، ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك ؟ ! قال : قلت :

الله ورسوله أعلم (أو ما خار لي الله ورسوله) . قال : عليك بالعفة . ثم قال : كيف

أنت وقتلاً يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم ؟ ! قلت : ما خار لي الله

ورسوله . قال : الحقْ بمن أنت منه . قال : قلت : يا رسول الله أفلا آخذ سيفي

فأضرب مع مَن فعل ذلك ؟ قال : شاركت القوم إذاً ، ولكن ادخل بيتك ، قلت : يا

رسول الله فإن دُخل بيتي ؟ قال : إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألقِ طرف

ردائك على وجهك فيبوء بإثمه وإثمك فيكون من أصحاب النار ) [18] .

ومن الوصايا الخاصة هذه الوصية التي تلقاها محمد بن مسلمة – رضي الله

عنه – من النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( عن أبي بردة قال : دخلت على محمد …

بن مسلمة فقال : إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال : « إنها ستكون فتنة

وفرقة واختلاف ، فإذا كان كذلك فأتِ بسيفك أُحُداً فاضربه حتى ينقطع ، ثم اجلس

في بيتك حتى تأتيك يدٌ خاطئة ، أو منيّة قاضية ) [19] .

ونجد إلى جانب هذه الوصايا الخاصة الموجهة إلى راوي الحديث وصايا عامة

مضمنة في الأحاديث التي تنبئ عن الفتن وأخبارها ، وتدل المسلم الذي يعاصرها

على ما ينبغي أن يفعله ليتقي شرها . فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجه

الخطاب إلى مَن هم جلوس بين يديه فيقول : » كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي

يغربل الناس فيه غربلة ، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم

فاختلفوا وكانوا هكذا (وشبَّك بين أصابعه) ؟ قالوا : كيف بنا يا رسول الله إذا كان

ذلك ؟ قال : تأخذون بما تعرفون ، وتدَعون ما تنكرون ، وتُقبلون على خاصتكم ،

وتذرون أمر عوامكم )[20] .

* يتبع *

__________

(1) مختصر صحيح مسلم للمنذري ، ص528 .

(2) المصدر نفسه .

(3) انظر : المصدر السابق : قصة ابن صياد والدجال ، ص 540 ، وما بعدها .

(4) م ن ، ص529-530 .

(5) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ، لمحمد فؤاد عبد الباقي ، 2/ 304 .

(6) مختصر صحيح مسلم ، ص529 .

(7) م ن ، ص529 (صحيح مسلم بشرح النووي) .

(8) م ن ، ص530 ، ويوم الجرعة يوم خرج فيه أهل الكوفة يتلقون والياً ولاه عليهم عثمان فردوه ، وسألوا عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري فولاه .

(9) قائل هذا راوي الحديث عن حذيفة .

(10) اللؤلؤ والمرجان ، 3/304 ، وصحيح سنن ابن ماجه للألباني 2/353 .

(11) الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد ، ج24 ، ص25-26 .

(12) صحيح سنن ابن ماجه ، 1/24-25 .

(13) كتاب المحن ، لمحمد بن أحمد التميمي ، تحقيق يحيى الجبوري ، ص 43 .

(14) صحيح سنن ابن ماجه ، 1/25 .

(15) صحيح سنن ابن ماجه ، 1/25 .

(16) مختصر صحيح مسلم ، 434 .

(17) صحيح سنن ابن ماجه 2/356 .

(18) م ن ، 2/355 .

(19) م ن ، 2/357 .

(20) م ن ، 2/354 .

مقالات ذات صلة

إغلاق